مسيرة أمكنة وأزمنة في الذاكرة

البحث في المكان عن زمان
(كائنات السيرة الذاتية)


(نشرت في مجلة مشارف، رام الله، 2006)

لعلّها محاولة الغائب الذي يحنّ والبعيد الآمِل والمنفيّ المُنتظِر والفنان المُحلِّق وطالب العشق والباحث عن الصبا؛ محاولة العودة إلى الأثر القديم؛ محاولة استعادة قديمٍ منسيٍّ أصبح بمرور الزمن أنفس من الآني وأندر من المُتاح.
لعلّها محاولة كشف مستورٍ غافٍ أو ستر حاضرٍ يغيب. لعلّنا عبر تلك الكائنات العتيقة والأمكنة القديمة نعيد رفو نسيج المنسي، ولعلّنا باستحضار ملامح المكان نفلح في جلب ملاحم الزمان. لعل وعسى!

”العصفورة قالت لي!“

غاظَتْني العصافير في طفولتي لفترة طويلة، ففي اليوم الذي عدتُ فيه إلى البيت من المدرسة- وكنتُ قد قمتُ بشيطنة طفولية- استقبلتني أمي على الباب بتفاصيل الحكاية. دهشتُ من المباغتة وسألتها: ”من أين عرفتِ؟ ومن قال لكِ؟“ ردّت: ”العصفورة قالت لي!“ وأكملَتْ كلامها بأنني سوف أعاقَب على هذه العفرَتة والشيطنة عقابًا يظل يتأجَّل دائمًا لأجلٍ غير مسمّى، دون أن ندري أن التفكير في الجزاء المؤجَّل كان يسيطر علينا لوقت طويل، حتى تصبح تلك المهلة وحدها كافية لردع أيّ محاولات مستقبلية مماثلة، أو على الأقل كافية للتحايل على العصافير بإخفاء الأحداث عنها.
كرهتُ العصافير بعد محبّة، بل كنتُ أحلم أن أكون مثلها أحلِّق في الفضاء وأرى الدنيا من علٍ. أو أن أطير إلى المدرسة في سرعة البرق إن تأخرت يومًا في الصحو. وأن أجلس عصفورًا وسط أقراني على ’دِكّة‘ المدرسة لأتعلّم.
لم يكن في كل شارعنا الطويل سوى شجرة كافور وحيدة أمام بيتنا. كنا نسكن في الدور الثاني. بعد رواية أمي لي، تأمَّلتُ هذه العصافير الجواسيس بغيظٍ شديدٍ وهي تزقزق لبعضها وتنقل كل أخبار الحيّ بل أخبار الصغار والتلاميذ منهم تحديدًا إلى أهاليهم.
صرتُ بعد هذه الواقعة أنظرُ إلى الأشجار في المدرسة بعد كلِّ شجارٍ مع أقراني، محاولاً أن أتحكّم في غضبي خشية بوح العصافير الأعداء بما حدث.
وفي البيت كنتُ أغلق شباك النافذة المقابل لهامة شجرة الكافور حتى أمنعها من التجسُّس. كان كل عصفور يقترب ويزقزق على سور ’البلكون‘ أهشه بانفعالٍ بالغٍ: ”امشِ يا كلب!“ رغم أنني كنتُ أحبّ الكلاب.

تمثال الإمام محمد عبده

في أول يوم لي في المدرسة: مدرسة الإمام محمد عبده الابتدائية المشتركة، رأيتُ في مقدمة الحوش- على الدرجات العريضة الملتوية إلى أعلى والمؤدية إلى حجرة الناظر- هذا التمثال لوجه الإمام محمد عبده؛ وجهًا أليفًا مبتسمًا، رأسه معمَّم ولا يبدو كشخص يعمل في مجال التدريس بهذا الوجه الحميم. اعتقدتُ يومها أنه صاحب المدرسة. كنتُ أنظر في وجه كلّ من يدخل إلى المدرسة علّني أتعرّف عليه لكنه لم يأتِ إلينا أبدًا، وسيظل هذا الوجه لستِّ سنواتٍ يطالعُني في دخولي إلى المدرسة كل يوم ولن أعلم عنه أيّ شيء في مرحلتنا الابتدائية.
سأقضي في هذه المدرسة أعذب فترة من حياتي. حتى منغِّصاتها القليلة ستكون بئرًا للذكرى الجميلة. في هذه المدرسة سأصبح مالكًا لمخلاة مدرسية ثم شنطة فيما بعد، ولقليل من الأقلام الرَّصاص وقلمٍ حبرٍ فيما بعد، وكتب وكراسات كثيرة عليها كلها ’تِكِتْ‘ باسمي. وسوف أرتدي زيًّا مدرسيًّا وامتلك كرافتة المدرسة وشارتها وأصبح فيما بعد قارئًا للنشرة الصباحية فيها، وضاربًا لطبلة الفرقة الموسيقية المدرسية لخطوة ’المارش‘ الصباحية، متَّجهين إلى الفصول في خطوة عسكرية منتظمة على وقْع الموسيقى وضربات الطبلة، ثم أصير ’ألْفَة‘ الفصل، وكان هذا ’الألْفَة‘- وهي تعني أوَّل الفصل أو رائده- منصبًا لتلميذٍ أو تلميذة تختاره المُدرِّسة لينوب عنها في لحظات الغياب أو التأخير وليكون نائبًا عن المُدرِّسة ومسئولاً عن التلاميذ في آنٍ. لكن أجمل ما بقي في ذاكرتي ليس هذا الاجتهاد الذي كنا نُجازَى عليه بالمديح المُبالغ فيه ولا هذه الممتلكات الصغيرة، بل تعلُّمي صدفةً للحَكْي في حوشها العريض. فقد كان لمدرِّستي في المدرسة الابتدائية طفلٌ في الرابعة تقريبًا. كان عنيدًا مزعجًا شرسًا لا يهدأ. تركَتْهُ لي لإلهائه؛ بأن أسير معه في حوش المدرسة في وقت الفراغ لانشغالها بالتدريس واضطرارها لإحضاره معها، كنت أقوم بهذا الإلهاء إن كانت لنا حصّة غابت فيها إحدى المدرسات، أو إن كان لديّ حصّة ألعاب أو حصّة زراعة مثلاً، تلك الحصص التي كنّا نجمع فيها أوراق الأشجار من الحوش ولم نتعلم فيها يومًا الفرق بين الملوخية والبرسيم أو بين الوردة والبصلة. كنت أسير مع هذا العنيد، فيبدأ في العصلجة والعفرتة ويتعبني كثيرًا. يضرب شبابيك الفصول والأولاد والبنات بالزلط والطوب ويتشعبط على كل ما يراه. في البداية كان الوقت يمرّ عليّ ثقيلاً عسيرًا وأنا لا أدري كيف أتخلّص من هذه المهمّة الشاقّة التي أوكِلَتْ لطفلٍ صغيرٍ مثلي.
لجأتُ إلى حيلة ذات مرّة وكانت ناجعة: بدأتُ أحكي له حكايات اخترعتها من الخيال، مثلاً عن أن هذه النخلة التي أمامه تسلَّقَتْها ذات يوم سحلية، فلمّا رأتها العنـزة أرادتْ أن تتسلَّق بدورها النخلة وفعلَتْ ذلك. لكنّها لم تجرؤ على النـزول، فطارت إليها الحمامة وقالت إنها ستعيرها جناحيها بشرط أن تعطيها بعض شعرها لتصنع عشًّا دافئًا لصغارها، وهكذا.. مع الوقت بدأ الطفل يميل إليَّ ويستسلم لسطوة الحكايات، وفورَ أن يراني، يخلع يده من يد أمّه ويطلب منّي أن أكمل حكاية اليوم الفائت، فكنتُ أخلط الحكاية فتصبح السحلية بُرصًا والعنـزة خروفًا والحمامة يمامة. هكذا تعلَّمتُ معه التحايل والتخايل في آن ٍلإخراج حكاياتٍ مقنعة.
إن صادف وجاءت هذه الجولة مع الطفل أثناء ’الفُسْحة‘، فكان هذا عندي أفضل ألف مرّة من البقاء في الفصل في هذه الفترة لمساعدة تلميذ أو تلميذة في شرح درسٍ أو إكمال واجبٍ. رغم أنني من ناحية أخرى كنت أشعر بفخر كبير بهذه المهمّة التي تكلّفني بها المعلمة؛ تلك المعلمة التي يهابها الكلّ، بأن تترجّاني أن أبقى في الفصل من أجل هذا العمل النبيل الذي سرعان ما يضيع نُبْلُه والفخر به بعد لحظات وأنا أرقبُ في حسرة أقراني وهم يلعبون، يجرون ويتصايحون، يأكلون ويمرحون، وأنا مزروع في ’دِكَّة‘ الفصل لأشرح وأشرح دون فائدة.
ومع ذلك أيضًا فقد كانت مهمّة التدريس هذه رغم تعسُّفِها أفضل بمراحل من طريحة تفصيص ”البسلة“ أو تقطيف الملوخية للمدرسات في الفصل، لتكون جاهزة للطبخ حين يعدن إلى بيوتهن.

القطار والشعبطة

أجمل ساعات المدرسة الابتدائية كانت الساعات الأخيرة التي نُصرَفُ فيها إلى ’المِرواح‘ أو التي تتغيَّب فيها مدرِّسة لسبب من الأسباب. يأتي فرّاش المدرسة عم إبراهيم ليقول لنا بصوته الجهور: ”الأبلة غايبة النهاردة.. ياللا مِرواح!“ تنطلق كلمة الفرح: ”هِيه.. هِيه!“ ونقفز من على الدِّكَك كالقرود منحشرين في باب الفصل كأن من سيتأخّر للحظة سيُحبَس في المدرسة، أو كأنّ عم إبراهيم سوف يرجع في كلامه.
تكون هذه الساعة الأخيرة هي إحدى فرصي النادرة لمحاولة ”كولومبوسيّة“ لاكتشاف الأمكنة الأبعد التي لم أرَها بعد. قد أصاحبُ فيها زميلا لي إلى منطقة القلج أو المرج أو عزبة النخل أو أنطلقُ في اتجاه عين شمس الغربيّة. كانت هذه الأمكنة هي عتبات الدخول إلى أوّل الدلتا. كانت تشكل لي عالمًا مجهولاً مدهشًا؛ مثل مشاهدة حيوانات جديدة خاصة الصغار منها، أو تأمّل أشجار لا أعرفها وحقول واسعة وتذوُّق ثمارٍ وخضرواتٍ طازجة كما أريد، ناهيك عن هذه الأكلات الجميلة من أمّهات أصدقائي مثل الفطير ’المِشلتِت‘ والقشدة والعيش البيتي و’المِرَحْرَح‘ والشمسي وكل هذه الطيّبات الوفيرة التي نشتري بعضها من البقال ويندر وجود بعضها الآخر.
في أحد الأيام قررتُ أن أقوم بنـزوة فردية خطرة بعض الشيء. فباعتبار أن قطار البضاعة الذي يمر بالمزلقان يتجه في طريقه نحو السويس أي في اتجاه بيتنا، وباعتبار أنه يهدّئ كثيرًا في المزلقان؛ فبالتأكيد يمكنني التشعبُط فيه والنـزول بعد دقائق قليلة بالقرب من البيت أو بعده بمسافة قصيرة، أعود فيها مكتشِفًا عالمًا جديدًا. كنتُ قد خططتُ في رأسي لزمنٍ طويلٍ أن أحقِّق هذه الأمنية يومًا ما في فضلة من الزمن تسمح لي بذلك، دون اكتشاف أحد من العائلة أو المعارف أو المعلمين لهذه الحملة الممنوعة.
وتأتي الرياح بما تشتهي السفن: يصل القطار في تلك الساعة ويبطئ كما يبطئ دائمًا؛ ممّا يدفعني لجري خفيف ثم قفز في العربة الأخيرة بمنتهى السهولة. جلستُ يومها أصفِّر مُدَلِّيـًا قدميَّ في مرح وانتصار على القطار الذي بدأ يسحب نفسه في بطءٍ شديدٍ ويدبدِب بهذا الصوت المحبّب، ثم يطلق صفيره عاليًا وأنا أعدُّ ’الفَلَنْكات‘ بين القضبان سعيدًا. قطع القطار مسافة كبيرة نسبيًّا بهذا البطء ثم بدأ يسرع ويكرِّر صفيره وأنا جزلان. فجأة اكتشفت أن ’الفَلَنْكات‘ التي أعدّها تتوالي بسرعة، ثم لم تعد مرئيـَّة بل في خطوط كالبرق، والقطار يطيل صفيره وهو ينحني ويدبدب بصوت أكثر حدّة، وأنا أتأرجحُ في العربة الأخيرة. قبضتُ على شنطتي بقوة، ثم نظرتُ إلى اليسار فوجدتُ أنني ابتعدتُ عن آخرِ البيوت التي أعرفها والتي تبعد عن بيتنا بمسافة ليست بالقليلة. وصل القطار حتى مشارف أكواخ البدو وبعد ذلك ستبدأ الصحراء. فزعتُ من فكرة أن يأخذني القطار إلى السويس. قررتُ التصرف العاجل. قذفتُ شنطتي فوجدتها بعد لحظة تصغر بل تكاد تتلاشى مثل نقطة. لم يكن أمامي إلا أن أرمي بنفسي ناحية الزلط والرمال.
وقفت متألِّمـًا مُغبَرًّا متسلِّخ الركبتين والكوع. لكني ابتسمتُ في تشفٍّ لذيل هذا القطار الملعون وهو يصغر ويصغر وأنا أعدو نحو شنطتي. انكسر يومها القلم الحبر ووسّخ الشنطة والكراسات. عدتُ إلى البيت متأخرًا عن الموعد المعتاد. رأت أمي تلك السحَجَات والتسلّخات في كوعي وركبتيّ، فبادرتها قبل أن تسألني: ”كان عندنا حصة ألعاب النهارده!“ صدّقتني وأمرتني أن أذهب لأنظِّف نفسي واستعدّ للغداء.
دخلت مبسوطًا من المغامرة التي مرّت على خير والتي رأيتُ فيها أثناء عودتي بيوت البدو المبنية من الطين والخوص، وهذا الكمّ الوفير من الماعز والخراف والجمال والحمير والكلاب، وتلك الرائحة التي لن أنساها وأنا أحثُّ خطوي في العودة إلى البيت بينما أرى وجوهًا كلها غريبة لم أرَ وجهًا واحدًا أعرفه مثلما اعتدتُ أثناء عودتي من المدرسة.
فكرتُ يومها: ربما لو كنتُ وصلتُ إلى السويس وعدتُ منها على الأقدام لكنت رأيت عجبًا أكثر. وقتها لم أخمّن تمامًا المسافة من السويس إلى عين شمس. لكن أصبحتْ عندي تجربة جديرة بالحكاية للأقران، وربما أعيدُ تجربتها من جديد لمكان أبعد قليلا.

أشجار جوافة ومانجو وتوت

المِرْواح! ما أجمل ساعة المِرْواح! وما أعظم أن تُلغَى الحصّة الأخيرة ويُسمَح لنا بالعودة إلى بيوتنا مبكرين. كان هذا يعني لي استغلال هذه الساعة الأخيرة في اكتشاف أمكنة جديدة. كنت أعشق الذهاب مع أقراني القاطنين في عين شمس الغربية باعتبار أن عين الشمس الشرقية التي أسكن فيها هي أقرب منها إلى المدينة وقد أصبحتْ مملّة بتكرار ما فيها على عكس الغربية الشبيهة بالريف، أكثر بيوتها مبنيّ بالطين وتكثر فيها الحقول والخضرة. وأحيانًا كنتُ أتوجّه شمالاً نحو عزبة النخل أو المرج.
في أحد أيام المِرْواح المُبكِّر ذهبت مع صديقي محمد وكان والده شاعرًا. لم أكن أعرفُ وقتها معنى هذه الوظيفة أو أين يعمل صاحبها بالضبط. صمّمنا على الذهاب إلى ﭬﻴﻼّّ صغيرة قريبة من المدرسة يتقدّمها بستان صغير ببعض الأشجار. كانت ثمار الجوافة تطلّ مثل مصابيح صغيرة صفراء مضيئة وسط خضرة الأوراق الداكنة، ورائحة الجوافة الخلابة قد غشت أنوفنا. ركنّا شنطتينا جوار سور اﻟﭭيلاّ من الخارج. كنّا نعرف أن صاحبة البيت سيّدة عجوز لا تظهر كثيرًا. تشعبطنا كالقرود على الباب الحديدي ثم على السور ومنه إلى الشجرة. التهمنا من الشجرة ما استطاعت بطوننا أن تستوعب وقطفنا بعض الثمرات للطريق وربما لإثبات بطولة سطونا للأقران عندما نلتقي بهم.
لحظات قبل أن نهبط وجدنا السيدة العجوز صاحبة اﻟﭭيلاّ تفتح الباب الداخلي. قطعنا النَّفَس. خرجَتْ بكل هدوء دون أن ترفع وجهها إلى الشجرة. فتحَتْ البوّابة وحملت شنطتينا. أغلقت البوّابة وعادت إلى البيت ثم أغلقتْ الباب خلفها. كركَبْ بطني بما فيه، ولم يعد لطعم الجوافة أيّ لذّة، ولم تعد هناك حكاية بطولة للأقران بل خيبة ومصيبة قادمة.
نزلتُ أنا ومحمد من الشجرة إلى السور إلى البوابة إلى الأرض. وقفنا حيرانَيْن أمام البوّابة من الخارج لا ندرى ماذا سنفعل في هذه الورطة.
كأنه دهر ونحن نقف في انفعال شديد خلف الباب، نعرف أننا لصوص الفاكهة المتلبّسون بالجرم، ونعرف أننا لن نستطيع العودة للبيت دون الشنط. أخيرًا فتحت السيدة الباب ثم البوابة ودعتنا للدخول ونحن متوجسان، من منّا سيدخل أولاً وماذا ستفعل معنا، لكن لم يكن في الأمر مفرّ. لامتنا السيّدة الطيّبة لومًا رقيقًا وقالت إنها تعرف مدرستنا، بل وتعرف والدي ”الطيّب“ ووالد صديقي ”مخيمر“. من لهفتنا وهلعنا اعتقدنا فعلاً أنها تعرفهما. وَعَدناها بعدم تكرار هذه السطو، ووعدَتْ في المقابل بأنها لن تحكي لناظرة المدرسة شيئًا ولا لوالدينا. أعطتنا الشنطتين، وقبل أن ننصرف طائرين من البوابة الباب أوقفتنا. ثم دخلتْ وعادت ببضع حبات من الجوافة لكلٍّ منّا وابتسمت تلك الابتسامة الحنون التي لن أنساها.

*****

كأنّ في الأشجار المثمرة جذبًا ملائكيًّا أو ربما شيطانيًّا يدفع إلى الغواية. إحساس عميق يغالبني كلما نظرت إلى مثل هذه الأشجار؛ فهي تغويك دائمًا لتمدّ يدك فتقطف ثم تشم ثم تأكل وتستمتع، ربما بعد ذلك تفكر هل كان عليك الاستئذان من أصحابها أم لا.
بالقرب منّا عبر خط السكة الحديد الذي يفصل بين منطقة عزبة النخل وعين شمس كانت هناك جنينة كبيرة للمانجو. هذه الجنينة بسرِّها الجاذب الذي يدفعنا نحن الأطفال من كل صوب لنتوجه إلى هناك في أسراب مثل الدبابير، وبالطوب نقذف ثمار مانجو خضراء لم تنضج بعد. كنا نزعم أننا نستذكر في هذه الجنينة. وقد بدأنا هذه الطريقة الحديثة: ”الاستذكار أثناء المشي“. كانت طريقة سخيفة لا أرتاح لها، لكننا وجدنا بعض الأقران الأكبر منّا يستذكرون بهذه الطريقة التي يبدون فيها مثل ثيران مربوطة في ساقية، فقلّدنا طريقتهم؛ نردّد مثلهم الكلام المكتوب بصوتٍ عالٍ لنحفظه. طريقة غريبة أقبلت عليها فقط من أجل التقرُّب من شجر المانجو وثمار المانجو لا من أجل الاستذكار. فيما بعد أدرك صاحب الجنينة هذه الخطط الماكرة التي تفسد له طَرْحه من الأشجار وتكبّده خسائر فادحة، فثمرة المانجو المصابة بطوبنا المجنون تفسَد. الغريب أننا كنّا نأكل هذه الثمار النيّئة اللاذعة بلذّة متناهية، دون أن نفكر في خسائر هذا المسكين صاحب الجنينة التي ندمرها له بغباء صبياني مزعج. بل ونسمّي هذه الأمور بطولات وجراءة!

*****

أشجار التوت الموجودة ناحية كَفْر فاروق لم تسلم من أيدينا ولا من بطوننا. تلك الأشجار التي اختفت الآن دون أن تترك أدنى أثر لها، شُيِّدَتْ محلّها أبراج عالية واكتظت في فترة وجيزة بحشد سكاني مُبالغٌ فيه. كان الذهاب إلى هذه الأشجار يتم أيضًا بتنظيم من سرب المخربين. نذهب إلى هناك ونتسلّق الأشجار في خفّة القرود، ونأكل من التوت مثلما يأكل دود القز ورق التوت. نظل هناك مختفين متشعلقين وسط الأغصان والفروع ولا ننـزل حتى تصيبنا التخمة، وحين يكتشفون وجودنا، كنّا نفرّ مثل فرّ العصافير. لكننا نعيد الكرّة من جديد بممارسة هذا السطو المحبّب لنا في هذه الغابة العظيمة من أشجار التوت.

*****
بعد سنوات يتكرّر منا هذا السطو الصبياني على مزارع بعض الفلاحين في منطقة عزبة النخل. كانت المرّة الأولى التي أرى فيها شجيرات الطماطم. كنت أتخيّل أنّ للطماطم أشجارًا مثل المانجو أو البرتقال. رَحِمَ الله أستاذ الزراعة الذي كان يدفعنا لحوش المدرسة للمّ أوراق الأشجار وتنظيف الفناء ولم يشرح لنا يومًا الفرق بين نموّ البطاطس ونموّ الفراولة.
في هذا اليوم ذهبت مع أخي خالد وصديقنا ماهر لهذه المنطقة. وكأننا نقلّد دون علم هؤلاء المغامرين الأوروبيين القدماء الذين اكتشفوا الذهب. زغللت أعيننا هذه اللمعة المثيرة للطماطم (الآن أفهم لماذا ينادي بائعو الطماطم عليها بأنها ”جواهر وأحلى من الرمان!“) نزلنا إلى الحقل في وقت الظهيرة الهادئ في يوم حار من أيام الصيف. التهمنا من وفرة الطماطم بلذّة. وما هي إلا لحظات حتى سمعنا زعيق: ”امسِكْ! حَلَّق! حُوش!“ جاء بعض الفلاحين يجرون نحونا يحاولون الإمساك بنا. كنت سريع الجري، طرت هاربًا ولم أتوقّف إلا بعد أن اقتربت من حدود منطقة عين شمس الشرقية- المنطقة الآمنة. جلستُ ألهث في ظلّ سور المركز الصحي. كنتُ أتخيّل في هذا السيناريو المؤذي أنهم أمسكوا بأخي خالد وصديقنا ماهر وأنهم يقومون الآن بتعذيبهما واستجوابهما، وأنهم سوف يأتون إلى بيتنا وستكون فضيحة بجلاجل، أو لعلهم قد ضربوهما ضربًا مبرِّحًا أو قتلوهما، لِمَ لا، ألسنا لصوصًا. أخذَتْ الأفكار تهزمني وأنا غارق في حيرتي جنب السور، عيناي لا تنـزلان عن اتجاه مكان الجريمة في انتظار وصولهما. لم أستطع العودة للبيت. بقيتُ زمنًا طويلاً قابعًا هناك كعجوز مُنهَك أو مشرَّد بلا مأوى. انتبهتُ أنني ما زلت قابضًا في يدي على ثمرة طماطم مسروقة، كانت دافئة تصعد رائحتها المميزة لأنفي فيختلط حسّي القديم باللذّة مع حسّي الجديد بالأزمة. لمّا أردتُ تذوّقها، كأنّ طعمها تبدّل إلى ثمرة أخرى مُرّة. هاجمتْ ذهني تربية الأهل بالمفروض والعيب وأوامر المعلمين بالمسموح والممنوع ومواعظ وأحكام رجال الدين بالحلال والحرام. لم أرمها على الأرض لأني تعلّمتُ أن رمْي النعمة أيضًا حرام. وضعتها إلى جواري عند السور واستغفرتُ ربّي من شرّ أعمالي. بعيون دامعة وصدر مكتوم حزين ضاع منه الانشراح وقفتُ أفكر في اختفاء أخي وصديقنا ماهر. الألم في أمعائي كان عارمًا ورغبتي في العودة إلى البيت كانت مقلقة، وكان الطريق إلى البيت أطول من اللازم.
حين وصلتُ إلى البيت، دخلتُ متوقعًا جملة أسئلة عن أخي الغائب، ثم استجوابًا تفصيليًّا يليه اعتراف بالجرم. قابلني أخي بوجه ضاحك كأنّ شيئًا لم يكن. كان قد عاد إلى البيت، لا أدري من أي طريق، ربما بالأوتوبيس الذي يمرّ من هناك.
حكى لي أن هؤلاء المزارعين كانوا من الطيبة والكرم بحيث إنهم حين أمسكوا بهما، لم يفعلوا شيئًا لهما، بل سألوهما من أين أتيا وأنهما إن أرادا مرّة الحصول على الطماطم، فعليهما أن يسألا صاحبها، فسوف يعطيهما ما يريدان. قالوا لهما ”إن خير ربنا كتير!“ بل فوق ذلك أعطوهما كمية أخرى من الطماطم ليأخذوها معهما.

الكلب ’لاكي‘ الرومي

لم يكن ’لاكي‘ Lucky - وهذا اسمه- كلبًا عاديًّا في الحيّ الذي نسكن فيه. كان كلبًا روميًّا ضخمًا ذا شعر أبيض فضي كثيف، عكس الكلاب البلدية الموجودة بكثرة. عيناه تختفيان تحت دغل قصاصاته فيبدو ككلب معجب ومختال بنفسه. حين يكون إلى جواري أشعر بالأمان، بشرط أن يكون أحد الكبار بالقرب منّي حتى أشعر أن هناك سيطرة أخرى أعلى على هذا الكائن العالي، الذي كانت عيناه في مستوى عينيَّ وأنا واقف حين ينظر إليَّ. كان ’لاكي‘ يبقى مؤدبًا مهذبًا في وجود أيٍّ من أفراد العائلة؛ كلبًا هادئًا نظيفًا لا ينبح ’عَمّال على بَطّال‘. حين يدخل صباحًا إلى الغرفة وأكون نائمًا في السرير يحرجم يمينًا ويسارًا حتى يقلقني فهو يريد أن يلعب. أفتح عينًا ثم الأخرى ببطء حتى لا يكتشف هذا الملعون صحوي، فهذه أول ألعابه الشيّقة معي وفرحته الكبرى باكتشاف يقظتي، ثم بداية خشيتي منه لأنه سوف يقفز حتمًا بعد لحظات إلى السرير للعب، فليس هناك كبير في الغرفة يزجره، وسيصير بالتالي أكثر ضخامة منّي. في تلك اللحظات كنت أصرخ صرخة الفزع المعروفة التي تعوَّدتْ أمي على سماعها في بعض الصباحات، وكانت تعرف أن ’لاكي‘ معي وحدي. كنت أقفز من النافذة القريبة من السرير إلى الشارع مباشرة، وكنا في تلك الفترة نسكن دورًا أرضيًّا. كنت أجري في الشارع صارخًا مرتعبًا هذا الرعب الطفولي المثير للضحك- لدى الآخرين وليس لديّ. يظل ’لاكي‘ يجري خلفي وهو ينبح وألفّ لفّة كبيرة حول البيوت كأننا نمارس رياضة يومية حتى أعود للبيت وقد غسل العرق وجهي، قبل أن أعيد غسل وجهي وأسناني قبل الفطور وأمي تضحك معي ومنّي ومن خوفي من هذا الكلب الظريف. تهوّن من هلعي وهو رابض بعيدًا مثل أبي الهول منتظرًا بعض اللقيمات وخصلاته المنكوشة تخفي عينيه الغارقتين الرائقتين.
وجاء اليوم الذي كنا نستعدّ فيه للسفر إلى العريش مثل كل صيف، للّحاق بالوالد في محل عمله، وقضاء الصيف الجميل هناك في منطقة ”أبي صَقَل“ التي كان ينطقها كل الناس ”أبو سَجَل“ - جاءتنا سيارة وحشرنا فيها أمتعتنا وانحشرنا معها. ظل ’لاكي‘ المسكين يدخل من باب السيارة ليدفعوه للخروج من الباب الآخر، ليدور ويعيد الكرّة من الباب الآخر ليدفعوه بزجر متكرّر. وأنا أترجّى أمّي أن تسمح له بالسفر معنا إلى العريش.
كانت عيناي على ’لاكي‘ عبر الزجاج الخلفي للسيارة، حيث وقفتُ على الكرسي الخلفي وسط إخوتي بعد تحرك السيارة، وقد رفض السائق العنيد وأمي وكل من كان هناك أن ينتقل ’لاكي‘ معنا إلى العريش.
ظللتُ مشبوحًا أرقبه بتحسر من فوق الأمتعة وهو يجري خلفنا وينبح.
كانت المرَّة الأولى التي شعرتُ فيها أنني لو نزلت وقتها من السيارة سأحتضنه ولن أخشاه أبدًا.
لكن المسافة ظلّت تتّسع وهو يبتعد ويصغر.
بقي ’لاكي‘ كلبًا لا مثيل له في الذاكرة، يعود لذهني كلّما رأيتُ كلبًا يشبهه، أبتسم متحسِّرًا وأتذكر تلك الأيام التي بقيت صغيرة بكل جمالها وصفائها.
حين عدنا من العريش للقاهرة لم يكن هناك ’لاكي‘ ولم يهتمّ الجيران به كما قيل لي وكما وعدوا، ولم أعرف مصيره. قمتُ بجولات لأسابيع طويلة لأبعَدِ الأمكنة بحثًا عنه لكنّه غاب. لم أدفنه منذ يوم سفرنا، بقي ’لاكي‘ حيًّا في ذاكرتي.

كائنات العريش

من أجمل فترات حياتي هي تلك الأصياف التي قضيتها في العريش. كنا ننتظر بفارغ الصبر نهاية العام الدراسي الذي كان يهلّ علينا نحن الصغار في وقت مبكر من الصيف، مثلما كان يتأخر دخولنا إلى المدارس حتى منتصف الخريف. الساعات الطويلة بالقطار إلى هناك كانت دائمًا حافلة بالدهشة والاستمتاع. في القطار نحيط بأمي من كل جانب وغالبًا ما تكون معنا عائلة أخرى أو أكثر بأولادها. مازلت أتذكر هذا الرجل الحاوي الذي ركب القطار وربطه زميله بالسلاسل بقوّة، وظلّ يبيّن لنا كيف لفّه بالقيود بإحكام من رسغيه إلى قدميه إلى رقبته مرورًا بالكتفين. يومها وقفتُ أنظر إلى هذا البطل العملاق كيف سيحلّ نفسه من هذه السلاسل. فيما بعد سوف أتذكر هذا الرجل القوي كلما شاهدت المسلسلين ”المجرمين“ في الأفلام الأمريكية، واليوم أيضًا أرى هؤلاء البشر المسلسلين بالقيود في ’جوانتانامو‘ بالصورة نفسها. يومها كان الأمر على سبيل التسلية، أما اليوم فقد تحوّلت هذه الفرجة إلى تسلية جادّة بالفعل لبعض الكبار.
كنت أرى هذا العملاق في القطار يجلس ويقف وينام ويلتوي ويتأوّه ويعافر، وصاحبه يؤكّد أنه لن يستطيع أن يفكّ نفسه. ويؤمّن الجالسون على كلامه؛ لأنه بالفعل مقيد بطريقة لا خلاص منها.
فجأة يفكّ الرجل نفسه ويصفق له الناس ثم يبدأ في طلب مقابلٍ لهذا العرض الجميل الذي قدّمه.
لحظات أخرى وأرى بعض الرجال يتصايحون في عصبيّة في القطار، يجرون يمينًا ويسارًا ثم يرمون من النوافذ بعض الزكائب، لتسقط خارج القطار قبل نقطة التفتيش. أنظر من النافذة لأرى بعض العسكر قد خرجوا بكلابهم البوليسية لا أدري من أين، يجمعون هذه الزكائب التي رُمِيَتْ. كانوا مهرّبين يهربون أشياء لا أعرف ما هي، لكني كنت أسمع أنها ممنوعات.

*****

في العريش كان لنا بيت صغير له حوش كبير بأرضية ترابية جامدة مرشوشة دائمًا ونظيفة، وفيه غيّة حمام في أحد جوانبه خلفها حظيرة. في ركن الحوش عند المصطبة العريضة توجد شجرة ليمون صغيرة.
جلسنا في أحد الأيام نجهّز لوقت طويل حفرة صغيرة عميقة لتقع فيها قدم والدي حين يعود من المعسكر. انهمكنا طويلاً في الحفر في هذه الأرض الصلبة. جرّبنا الحفرة-الفخّ مرّات، فكانت أقدامنا تسقط فيها بكل سهولة. غطيناها في النهاية بجريدة ورششنا عليها الرمل لنخفيها. جهّزنا السيناريو كاملاً. لمّا عاد أبي تبارَيْنا فيمن يمسك بيده ويمشي معه إلى الحفرة. مشى عليها لكن لم يحدث ما نتوقّع. كنا نعيده للخلف ونكرّر، نوقفه فوق الحفرة، لكنه لم يسقط أبدًا. مشى معه أخي ثم أختي ثم أنا، و أبي في كل مرّة يوافقنا بصبر وهو لا يعلم ما يدور بأذهاننا أو ربما كان يعلم ولا يريد أن يُفسد لنا بهجة اللعب. تركناه حيران بعد أن صبر على محاولاتنا كثيرًا، دون أن تهبط قدمه في الحفرة المغطاة بالجريدة والتراب كما كنّا نتمنّى.
لما دخل إلى الغرفة كنت أوّل من وقع في الحفرة. ومن حفر ”لأبيه“ حفرة وقع فيها!
لم نفكر في أن حذاء أبي ’الميري‘ كان من الضخامة بحيث لا يقع في مثل هذه الحفرة التي تخيّلناها كبيرة بقياسات أقدامنا الصغيرة.


*****


في العريش منعَنَا الوالدان من الذهاب للبحر أثناء القيلولة. كان هناك حظر تجوّل علينا في هذه الفترة؛ فترة منتصف الظهيرة الحارة التي يخلد فيها الكل للنوم والهدوء حتى لما بعد العصر؛ فالذهاب للبحر يكون صباحًا مع الوالدة والخالة ونساء البيوت المجاورة. نخرج معهن وقد جهزن لنا كميات لانهائية من السندوتشات التي كنا نلتهمها على البحر في نهم شديد. كنَّ لا ينـزلْنَ معنا إلى البحر بل يكُنَّ قريبات منا لنقضي نحن أسعد الأوقات. في مساءات بعض الأيام كان معظم الرجال، وهم زملاء العمل وجيران، يخرجون مع زوجاتهن وقريباتهن إلى البحر. يجلس الرجال على مسافة بعيدة تسمح بحمايتهن ولا تسمح بكشفهن، يتركونهن يأخذن نصيبهن من السباحة واللهو في الماء وهم جالسون يدخنون أو يتحادثون أو قد ينـزل البعض منهم أيضًا إلى البحر.
في قيلولة أحد الأيام ذهبتُ أنا وأخي الأكبر مني خالد مخالفين تعليمات حظر الخروج أو التجول. فكرنا أن نذهب مرّة إلى البحر في هذا الوقت، فنحن لم نرَ البحر في مثل هذا الوقت أبدًا. تسرّبنا بهدوء خارج البيت متجهين إلى ’المالح‘ كما كانوا يسمونه. عند الشط بدأنا نداعب الماء بأقدامنا أو بالأصح بشباشبنا. كان الماء دافئًا مغريًا يدغدغ الأقدام. فجأة انخلعت فردة شبشبي، أخذها الموج وطفا بها وطاف بعيدًا. حاولتُ الإمساك بها لكنها ابتعدت. خلعت الفردة الأخرى ورميتها على الشط، ثم رفعت جلبابي قليلاً لكنها كانت تقترب وتبتعد كأنها تعبث معي. رفع أخي جلبابه وصرنا نتبادل الدخول والخروج دون جدوى. رفعنا جلبابينا حتى الصدر في محاولة أخيرة يائسة. وبعد لأي أمسكنا بفردة الشبشب الملعونة. لكن كان سروالانا في حالة بللٍ بيّن لا تصلح مداراته. كيف نعود الآن إلى البيت بسروالين مبتلين هكذا. تفتّق ذهننا عن فكرة رائعة: بما أن الإسفلت شديد السخونة، بل يكاد يكوي الأقدام، فيمكننا أن نعود إلى الطريق الإسفلت الذي يفصل البحر عن بيتنا. وهناك نخلع سروالينا ونضعهما على صهد الإسفلت ليجفّا. في البداية لاحظنا البخار الصاعد منهما لكن البلل بقي كما كان. تفتّقت فكرة أروع في رأسي: لماذا لا نضع سروالينا تحت إطارات هذه الشاحنات الضخمة التي تنقل النفط. فإطاراتها عريضة وعديدة وقوية وسوف تعصر سروالينا وتجفِّفهما وتكويهما في آن؛ فما أجمل ذلك!
حسبنا وقسنا مكان الإطارات بعناية ووضعنا اللباسين على الإسفلت وانتظرنا، ولم يكن انتظارنا طويلاً حتى هلّت أوّل شاحنة ضخمة بإطارات مزدوجة وبمقطورة خلفية. مرّت الشاحنة تمامًا على اللباسين، وقلبانا في فرحة عارمة لقرب انجاز المهمّة. فجأة التصق السروالان بالإطارات ثم اختفيا للحظات. جرينا خلف الشاحنة. لكنها كانت من الأمانة بحيث رمت اللباسين بالفعل.
جرينا مسافة طويلة دون أن نستطيع تحديد مكان ما لفظته الإطارات. وجدنا لباسينا في لون قريب من لون الإسفلت ولهما رائحته ورائحة النفط. بل زاد على ذلك أن حجميهما صار غريبًا عريضًا ومظهرهما معوجًّا متشنِّجًا. الفضيلة الوحيدة في الأمر أنهما جفّا بالفعل.
لبسناهما وأصبح شكل جلبابينا يثير ضحك أي ناظر. هرعنا يومها للبيت بعد تأخير.
كان أبي قد استيقظ باحثًا عنا. لمّا دخلنا لم يعنّفنا كثيرًا بل ظلّ يبحث عن سوط ليضربنا، قال إنه أخفاه في مكان ما. ظل يبحث عن هذا السوط الوهمي ويسأل أمي عن مكانه. يخرج من غرفة ليدخل أخرى ليصعد فوق غيّة الحمام، ونحن في منتهى الخزي منتظران كأرنبين مذعورين داخل الغرفة هذا العقاب الذي تأجّل، وأمي تستعطفه على لساننا- بمسرحية لم ندركها في ذاك الحين- بأنها أوّل وآخر مرّة وأن الأولاد لن يفعلوا هذا أبدًا بعد اليوم.
لا أتذكر أن أبي رفع يومًا يده أو شتم أيًّا منّا.

*****

في العريش كانت لنا ألعاب طفوليّة عجيبة اخترعناها. لم يكن هناك تلك الألعاب الموجودة اليوم. كان البراح الكبير أمامنا يدفعنا لخلق ألعاب جماعية من البيئة. بعضها بريء ولطيف وبعضها الآخر جريء معابث شيطاني. أذكر أننا مرّة قبل اللعب أخفينا شباشبنا- كنا نسمّيها الزنانيب- في الرمال حتى لا يأخذها أحد، ولم يكن هناك أحد ليأخذها. كنا مثل جحا، لا أتذكر بِمَ علَّمنا المكان حتى نجد شباشبنا بعد أن ننتهي من اللعب، ربما بعمل تبّة صغيرة من الرمال أو وضع ورقة فوقها أو شيءٍ من هذا القبيل. وكنا بالطبع، بعد الانتهاء من اللعب، نحتاج إلى وقت أطول من الوقت الذي استغرقناه في اللعب، من أجل البحث عن تلك ”الزنانيب“ المدفونة، ونضطر لأن نعود إلى بيوتنا حفايا صاغرين، ليضحك الأهل علينا عمرًا طويلاً.
وفي اليوم الذي أرى فيه أقراني وأخوتي يتقافزون من فوق شجرة التين العتيقة، كنا نسميها ”شجرة عم رجب“، وأنا مازلت في الرابعة أو أقلّ منها. يعجبني طيرانهم هذا من فرع الشجرة إلى الرمال. أصعد مثلهم وأنا أصغرهم سنًّا وحجمًا، وأريد أن أقوم بنفس الحركة وما إن طرتُ بجلبابي من فوق الفرع حتى تعلقت جلابيتي بفرع الشجرة بارتفاع لا يمكِّن أقراني من تخليصي لا من فوق ولا من تحت. في هذا الوقت يبرز عم رجب صاحب الشجرة. ويصرخ فينا من بعيد: ”يا شياطين يا عفاريت يا ولاد العفاريت أنا جاي لكم حالا!“ يفرّ كل الصغار مثل فرّ العصافير وأبقى وحدي صارخًا على الشجرة أرفرف بقدميَّ وذراعيَّ وجلبابي يتمزّق تدريجيًّا لكني لا أصل إلى الأرض. أبقى معلّقًا هكذا وحدي لزمن أتخيّله دهرًا، حتى يمرّ بي صيّاد متجهًّا نحو المالح بشبكته وأدوات صيده. يضحك وهو يقترب منّي وأنا مازلت أصرخ خائفًا من عودة عم رجب متذكرًا وعيده. يرفعني الصياد العملاق بيد واحدة من جلبابي المقطوع ويُنـزلني على الأرض لأطير إلى البيت، ألتقي في الحوش بأمي التي ارتدت ملابسها خارجة لإنقاذي بعد أن بلغها نبأ الأسر على الشجرة.
أدخل خاشيًا من العقاب؛ عقاب قطع الجلابية لكن منظري بهذا الذيل يهلك أمي من الضحك. تصير نادرة مازلنا نحكيها حتى اليوم.
ضاع بيت العريش هذا بعد حرب 1967 وحصل أبي بعد سنوات طويلة على تعويض زهيد- عن البيت وما فيه- يعادل 140 يورو بأسعار اليوم (نحن في عام 2006). أبي الذي كان في عداد المفقودين وقد عاد سيرًا على الأقدام في السادس عشر من يونيو 67، بعد النكسة، وهذه حكاية لها موقع آخر وتفاصيل أخرى.
بعد ثمانيةٍ وعشرين عامًا أعود إلى العريش مع زوجتي. أتعبُ كثيرًا في البحث عن بيتنا الضائع. ألفّ وأدور قريبًا منه. إحساس ما يجعلني أشعر أنه بيت من ثلاثة بيوت متلاصقة، لكني لا أقف على يقين. أكرّر لزوجتي ما تعرفه مني، مثل دليل سياحي عن تاريخي وتاريخ العائلة، لكن هذه المرة على أرض الواقع الضائع، ثم أزور معها البحر المالح والنخلات وأقضي هناك وقتًا صامتًا مع الذكرى.

حلاقة المعيز

في القاهرة في بيت جدتي لأمي في حيّ الحسينية العتيق تكون لنا ذكريات عظيمة في هذا الموقع السحري. ففي الأيام التي تسبق السفر إلى العريش أو الأيام التي تلي العودة نكون لديها في هذا البيت العالي الذي يطل سطحه على القاهرة القديمة وعلى جبال المقطم.
أذهب في يوم من الأيام مع أخي خالد إلى حلاقنا الذي اعتدنا أن نحلق عنده. نرغب في أن نختصر جزءًا من المبلغ المدفوع له حتى نستطيع أن نؤجّر درّاجتين لنلفّ بهما حول جامع الظاهر بيبرس. يتفتق ذهننا الصغير عن فكرة عظيمة بأن نذهب لحلاق الرصيف ليحلق لنا بنصف الثمن أو أقلّ، وهو حلاق يحلق عادة للمجنّدين والباعة المتجولين وأصحاب الطائفة الدنيا والحرف البسيطة- يحلق لهم حلاقة على ’الزيرو‘ أو نمرة واحد، بأدوات قديمة بدائية، يجلسون فيها أمامه على كرسي حمام صغير أو على طرف الرصيف.
جلسنا يومها واحدًا بعد الآخر ممسكين في أيدينا تلك الشَّقْفَة من المرآة. لم يهمّنا ما نراه بقدر ما كنا نتخيّله من المبلغ المتبقي من الحلاقة: كمّ لفة يا تُرى سيسمح بها هذا المبلغ. بعد أن انتهى حلاق الرصيف بسرعة البرق من عمله، طرنا إلى العجلاتي وأجّرنا العجلتين. أكّد العجلاتي بحزم: ”لَفّة واحدة بَسّ.. حوالين الجامع وترجعوا على طول! واللَّفة بتعريفة!“ طبعًا كنا نحاول أن نكون أذكى، فكنا نسير بالعجلتين في نصف دائرة ونعود مرة أخرى ولا نلفّ اللفّة كاملة، وهو ينظر من حين لآخر زاعقًا إنه يرانا وعلينا أن نعود. يتركنا نخدعه ونحن نعتقد أننا ألأم منه. كل ما كان يخشاه أن نبتعد بالعجلة لمكان خطر وسط العربات السريعة فيحدث ما لا تحمد عقباه لنا ولعلجلتيه.
نعود إلى البيت فرحين عرقانين مبسوطين. لكن بمجرد أن ترانا خالتي التي أرسلتنا للحلاق تقول بفزع : ”مين اللي حَلَق لُكُم النّهاردة حِلاقة المِعيز دي؟ الأسطى زكي؟ لأ لأ.. ده أنا حاخرِب عيشتُه.. يالاّ معايا انتَ وهوَّه!“ تلفّ خالتي ملايتها اللفّ السوداء في لمح البصر. ننظر أنا وأخي لبعضنا تلك النظرة الأسيانة. وأتذكر الآن قول نجيب الريحاني: ”حاسِس بمُصيبة جايّالي.. يا لطيف يا لطيف.. مصيبة ما كانِتْشي على بالي يا لطيف يا لطيف!“.
تمسكني خالتي بيدها اليمني وتحت إبطها الأيسر تضغط على الملاية اللفّ وأخي يتبعنا. نتجه ثلاثتنا نحو دكان الأسطى زكي الحلاق. ما إن تقف خالتي أمامه ويسلّم عليها، لا ترد السلام، بل تبادره: ”إيه يا أسطى زكي؟ إيه حلاقِة المِعيز دي؟ من إمتَى وأنتَ بتحلَق لُهُم كِدَه كُلّيشِنْ كان؟“ لا يقول الأسطى زكي أكثر من: ”يا ستي والله...“. تتركنا أمامه وتقول له: "اِعدِل لُهُم دماغهم دي الله لا يسيئك.. أنا مِستَعْجِلة!" ينظر الرجل إلينا في دهشة واستنكار. يتأمّل رأسيْنا في هذه الحلاقة العجيبة وينظر لخالتي التي انصرفت وفمه مازال مفتوحًا.
الرجل الطيّب لا يريد أن يفقد زبائنه الدائمين. يعرف بخبرته أننا فعلنا فعلة ما، هي السبب في كل ما حصل.
أتذكر يومها- وهو يرفعني على خشبة عريضة فوق مسندي كرسي الحلاقة لأنني كنت ما أزال قزمًا صغيرًا. يمسك رأسي بيده اليسرى والمقص في يده وأنا أنظر إليه في المرآة بخشية وهو يقول لي: ”بس لو اعرف انتو حلقتوا حلاقة المعيز دي بس فين؟“.

تدريبات الشتيمة

افترقت عنا البنات لمدارس البنات في المرحلة الإعدادية، من الثالثة عشرة حتى الخامسة عشرة. لن نلتقيهن مرّة أخرى لنجلس معًا إلا في الجامعة، أي بعد المرحلة الثانوية التي تلي الإعدادية. كنا مهذّبين مؤدّبين في المرحلة الابتدائية، لكن في المرحلة الإعدادية وفي بداية فترة المراهقة المجنونة، جذبتنا الشتائم التي نسمعها ممَّن هم أكبر منّا سنًّا. لم تكن شتائم عراك وخلاف وإنما شتائم عجيبة من المحبّة رغم كلماتها شديدة الوقع. أردنا من خلالها أيضًا أن نصبح كبارًا. اهتدينا بعد لأي لطريقة موفّقة نستطيع بها أن نتنابذ بالألفاظ ونشتم ونسبّ على راحتنا. كوَّنّا مجموعة دائمة لكرة القدم- الكرة الشراب- وذهبنا إلى أرض فضاء وقسّمنا أنفسنا إلى فريقين، بدأنا اللعب وسبّ الفريق المنافس بسبب وبدون سبب. أصبحنا نتبارى أكثر في الشتم ونبالغ فيه ونتفنّن، ولا أدري حتى الآن كيف كانت تأتي على ألسنتنا هذه الألفاظ ”الأبيحة“.
كنا بعد أن ننتهي من اللعب نصمت. نعود إلى سابق عهدنا وكأن شيطان السبّ الذي تلبَّسنا قد غادرنا للتوّ.
كنا نعود إلى كلامنا المؤدّب المهذّب، كأننا كنا قبل قليل في دورة تدريبية مكثفة أو ’سيمينار‘ للشتيمة.
في لعبنا فيما بعد للشطرنج استعدنا نفس الطريقة، لكن دون أن نبالغ بسبٍّ قبيح، بل ابتكرنا قواميس جديدة بكلمات للتقليل من شأن المنافس ومحاولة الضغط النفسي عليه. كانت هذه الطريقة أفضل لي كثيرًا، لأننا لم نتعرض فيها بالسبّ لأهل أو لأي قيم أخرى لدى الأقران، بل كنا نركّز على الخصم ونشبعه بكلمات التقزيم والتهزيم.

”أبْلَة“ الأحياء

في المدرسة الإعدادية كانت النقلة الجديدة مُفرحة لنا، أن نتخلّص من المريلة؛ هذا الزيّ المدرسي ذي اللون الكاكي الفاتح أو الكمّوني الذي فرحنا به في السنتين الأوليين من المرحلة الابتدائية، ثم لم يكن ذا أهمية في السنتين التاليتين، ثم أصبح عبئًا وكرهًا لنا في العامين الأخيرين في السنتين الخامسة والسادسة. في الوقت نفسه راودنا هذا الانفصال عن قرينات الطفولة شعور مزدوج: شعور بالزهو ومبادئ البلوغ ممزوجًا بشعور بالفقد بابتعادهن عنّا هكذا مرّة واحدة.
في الصف الثالث الإعدادي تغيّر منهج مادة الأحياء للمرّة الأولى ليضاف فصل جديد في آخر الكتاب عن التركيب التشريحي للأعضاء التناسلية للذكر والأنثى. هذه الصفحات الأخيرة كنا نفتحها بحرج شديد أمام الآخرين، ونتأملها بعناية في غير وجودهم، كأننا ننظر في صفحات ’بورنو‘ خليعة. في هذه الفترة التعليمية (أتحدث الآن عن عام 1973 بالتحديد) كان القليل من أقراننا في هذه الفترة قد وصلوا إلى مرحلة البلوغ؛ سنّ الحكايات الخياليّة والمبالغات والتجارب الساذجة والكاذبة.
كانت مادة الأحياء في فصلنا تُدَرَّس من قِبَل شابّة جديدة وجميلة. كانت جادّة وصارمة حتى تتحكم في شيطنة هذا العمر المجنون. في هذه الفترة كنت أعشق اللغة الانجليزية والعربية والأحياء والجغرافيا والجبر وأكره بقية المواد وعلى رأسها الكيمياء والتاريخ والفيزياء والهندسة. في يوم من الأيام طلبتْ منّي هذه المُدرِّسة أن أذهب إليها في غرفة المدرسين بعد الحصة. لم أعرف السبب، لكني شعرت بقلق وفضول.
ذهبت إليها وسط تلميحات زملائي المضحكة: ”أيوه يا عمّ هنيّاله! يا بَختُه يا عمّ!“ وكل هذه الكلمات الظريفة المُحرِجة خصوصًا أن عددًا لا بأس به كان واقعًا في غرامها؛ هذا الغرام المراهق الساذج للأنثى الوحيدة التي تدخل مدرسة النهضة الإعدادية للبنين.
قالت لي المعلمة ولم يكن هناك أحد من المدرسين في غرفة المدرسين: ”أعرف أنك متفوّق في كثير من المواد، وقد حصلتَ على أفضل درجة عندي في مادة الأحياء، وأنا متأكدة من أنكَ ستحصل على درجة متفوّقة أيضًا في نهاية العام تسمح لك بدخول المدرسة الثانوية بمجموع كبير!“ حتى هنا وكانت هذه المقدمة مريحة، لكنها أثارت في نفسي التوجُّس لما سيليها من كلام.
تابعَتْ: ”تعرف أننا قد أنهينا دروس الإحياء، ولم يبقَ إلا درسٌ وحيدٌ، وهو الدرس الأخير، وهو شائك كما تعرف لاسيما مع هؤلاء الشياطين الملاعين! لذا سأقوم بشرح هذا الدرس لكَ وعليكَ أن تقوم بشرحه لزملائك!“ يومها درات بي الدنيا وتلعثمتُ ولا أتذكر الآن بِمَ رددت على ابتسامتها العريضة الجميلة. لكني كرهتُ منها هذا الاختيار المزعج المتعسِّف الذي سيجعلني أضحوكة أمام الزملاء.
تغيَّبتُ عن المدرسة في الأيام التي كانت لنا فيها حصة أحياء. المادة التي أحببتها، وتلخبطتْ أموري في آخر العام، ولم أستطع أن أبوح بالسر الذي ائتمنتني عليه.
لا أدري ماذا يحدث الآن في عالمنا العربي طولاً وعرضًا. هل يتم شرح هذه المادة، أم ألغيَتْ من الكتب، وهل هناك علمٌ مخزٍ لهذه الدرجة. نحن نتشدق دائمًا بأنه لا حياء في الدين ولا حياء في العِلم. لكن عند الجدّ نتهرّب.
أتذكَّر الآن هذه الأيام المصرية البعيدة. أتذكرها الآن بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، وبعد إقامة طويلة في هذه المدينة الأوروبية ﭬﻴﻴﻨـﺎ التي أعرف أن مثل هذه البديهيات يتم شرحها هنا للصغار   في روضات الأطفال بشكل جميل مبسّط، حيث يُجاب على كلّ سؤال لأيّ طفل أو طفلة دون ذكر كلمة: ”عيب!“ أو: ”بعدين أقول لك!“ لا أحد هنا يردّ على الطفل عندما يسأل سؤاله المعتاد: ”من أين أتينا؟“ بهذا الرد الخرافي العجيب عندنا: ”لقد وجدناك على باب الجامع!“

سينما للكبار

تحضرني الآن حكاية موازية لسنّ البلوغ، لكنها في أوائل المرحلة الثانوية. شعرنا أننا كبرنا أكثر واخشنَّ منّا الصوت وظهرت لبعضنا تفاحة آدم. كانت حكايات الأكبر منّا سنًّا تعشِّش في ذاكرتنا لوقت طويل. حكايات الأفلام؛ أفلام الكبار، تلك الأفلام الممنوعة على الصغار، وباعتبار أننا كبرنا فقد فكَّرنا ذات يوم في الذهاب إلى السينما لنرى أحد هذه الأفلام المسمّاة: ”للكبار فقط“. ما أتذكره هو أن اسم الفيلم كان ”العسكري الأزرق“. كنا في السادسة عشرة. سيّد ومحمد وأنا. ذهبنا إلى سينما روكسي في مصر الجديدة. دفعنا بسيّد إلى شباك التذاكر فهو الوحيد الذي كان شاربه قد نما بكثافة وكان طويلاً عريضَ المنكبين ويشبه الممثل عماد حمدي. وقفنا نحن خلفه وكسَوْنَا وجوهنا بالتجهُّم المناسب والصوت الأجشّ.
دخلنا بنفس التجهُّم وبشيء من اللامبالاة كأننا اعتدنا الأمر، بينما نحن لا نصدّق أننا سوف نرى بعد لحظات فيلمًا للكبار فقط. الفيلم بدأ بسرعة لتنقطع المشاهد وتظهر مشاهد أخرى مركَّبة عشوائيًّا دون ترابط. لم نستطع متابعة أحداث الفيلم. ولم نرغب في أن نرمش حتى لا نضيع مشهدًا.
الفيلم الذي كان من المفترض أن يستمر لساعتين كان أقلّ من ساعة. كانوا بالطبع يعرضون في السينما فيلمين في ’بروجرام‘ واحد.
بعد أن خرجنا من السينما، ولم يبقَ سوى الوهم الذي في رءوسنا. حاولنا أن نبرِّر مغامرتنا ونخفي خيبة الأمل. بعد صمت طويل صاح محمد: ”شوفتو فَخد الممثلة بنت الذينَ دي؟“ صحنا: ”إمتَى؟ في أنهو مَشهَد؟“ ضحك محمد وحكى شيئًا غير مترابط مثل الفيلم. استدرك سيد وقال: ”بَسّ أخطر مشهد كان.. لمّا الممثلة خَربِشِتْ الراجل بضوافرها!“ طبعًا أدليتُ بدلوي وقلت: ”لكن باين عليكو ماخدتوش بالكم وما شفتوش اللي كان بيحصل تحت السرير!“.
هكذا سرنا نتدوال أحداث عدّة أفلام في رءوسـنا لم نرَ منها في الحقيقة مشهدًا ممّا نسرد.
الفيلم حقيقةً كان مثيرًا للخيال والإبداع بسبب كلّ هذا النقص والقصّ واللصق. وسأظل طوال عمري ممنونًا لكل تلك الحكايات المنقوصة والمبتورة التي أكملتها بطريقتي وفي خيالي، والتي تعدَّدتْ وتراكمتْ في ذاكرتي وخلَقَتْ كائنات لانهائية ما زالت تُثري حياتي حين أستعيد- في هذا المكان الذي أعيش فيه وفي هذا الزمان الذي أحيا فيه- أيام زمان.


ﭬﻴﻴﻨـﺎ في 6-2-2006